اغتيال الحقيقة- إسرائيل تستهدف صحفيي غزة لإخفاء جرائمها.

المؤلف: حسين البطش08.19.2025
اغتيال الحقيقة- إسرائيل تستهدف صحفيي غزة لإخفاء جرائمها.

خلال حربها الضروس والمستمرة في قطاع غزة، ارتكبت إسرائيل العشرات من عمليات الاغتيال الشنيعة بحق المئات من الصحفيين، في محاولة يائسة لطمس الحقيقة الساطعة، وحجب صور القتل والدمار المروعة عن أعين العالم أجمع.

لم تكتفِ حرب غزة بإزهاق أرواح الفلسطينيين الأبرياء، بل سعت بكل قسوة لاغتيال الرواية الفلسطينية، وتجريد هذه المأساة الإنسانية من شهودها الصادقين الذين ينقلون للعالم حقيقة ما يجري على أرض الواقع.

ومع اشتداد المعركة وتصاعد وتيرتها الوحشية، خاصة في الأسابيع الأولى، تحول انخراط الصحفي الفلسطيني في معركة نقل الصورة إلى العالم إلى قرار مصيري محفوف بالموت، يتطلب شجاعة منقطعة النظير واستعدادا للتضحية بالروح فداء للحقيقة.

برزت قناة الجزيرة الفضائية كإحدى أهم المنصات الإعلامية التي نقلت أدق تفاصيل الحرب لحظة بلحظة، وذلك عبر شبكة مراسليها الأكفاء المنتشرين في الميدان. لقد نجحت القناة ببراعة في تغطية حرب غزة، وتُعتبر هذه التغطية من أهم وأخطر التغطيات على الإطلاق؛ لكونها تغطي حربا طاحنة ومدمرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي مساحة جغرافية ضيقة للغاية، وفي ظل انعدام مقومات التغطية المعتادة من كهرباء، ووقود، واتصالات، وشبكة إنترنت، وهي أمور لم يعتد عليها الصحفيون في العقود الأخيرة. ورغم هذه التحديات الجسام، كانت القناة دقيقة ومستمرة في نقل الصورة دون أي تراجع أو تقاعس في كل فصول الحرب الدائرة، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته.

لكن إسرائيل، التي أدركت خطورة هذا الصوت الإعلامي الصادق على صورتها المهزوزة أمام العالم، استهدفت الجزيرة بشكل ممنهج ومقصود، فاغتالت عائلات بعض مراسليها، مثل الصحفي وائل الدحدوح، الذي فقد أسرته بأكملها في غارة إسرائيلية غادرة، وتعرض هو نفسه للاستهداف بشكل مباشر، إلى جانب المصور الشهيد سامر أبو دقة، واغتيال الصحفي إسماعيل الغول، ثم استهداف الصحفي حمزة الدحدوح.

وآخر فصول هذا الاستهداف الممنهج تمثل في اغتيال فريق عمل قناة الجزيرة في شمال قطاع غزة ومدينة غزة، وعلى رأسهم الصحفي الشاب أنس الشريف، والصحفي محمد قريقع، وآخرون من طاقم القناة الذين كانوا يقومون بواجبهم المهني والإنساني.

باغتيال أنس الشريف وطاقم الجزيرة في غزة، يرتفع عدد الشهداء الصحفيين في هذه الحرب إلى 237 شهيدا، حسب إحصائيات محلية فلسطينية موثوقة، في واحدة من أكثر الحملات دموية ووحشية ضد الإعلاميين في العصر الحديث.

وأكدت منظمات دولية مرموقة، مثل "مراسلون بلا حدود"، أن حجم الاستهداف غير مسبوق على الإطلاق، وأن عددا كبيرا من هؤلاء الصحفيين الأبرياء قُتلوا مع عائلاتهم داخل منازلهم الآمنة أو أثناء ممارسة عملهم الميداني، ما يشير بوضوح إلى سياسة ممنهجة ومتعمدة لإسكات الشهود وطمس الحقيقة.

وذلك على الرغم من أن استهداف الصحفيين في مناطق القتال يُعد جريمة حرب واضحة وصارخة بموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، الذي يضمن حماية العاملين في الإعلام بصفتهم مدنيين لا يجوز استهدافهم.

وقد دعت منظمات حقوقية دولية ومحاكم دولية إلى فتح تحقيق عاجل وفوري في جرائم استهداف الإعلاميين في غزة، ورغم ذلك لم تعر إسرائيل أي اهتمام لهذه المواثيق والقوانين الدولية، وواصلت قتل الصحفيين بدم بارد، وأحيانا تكون عملية الاغتيال بعد دقائق معدودة من آخر رسالة إعلامية ينقلها الصحفي، كما جرى مع الصحفي محمد قريقع.

كان أنس الشريف، مراسل الجزيرة في شمال قطاع غزة، شاهدا حيا على أفظع المجازر والفظائع التي شهدها مخيم جباليا للاجئين، مسقط رأسه ومهوى قلبه. من يتابعه كان يشعر أنه حاضر في كل مكان يتعرض للقصف والتدمير، متحديا النار والخطر بكل شجاعة وإصرار، لينقل الحقيقة كما هي دون مونتاج أو تزييف، ملتزما برواية الواقع المرير كما هو.

لقد ألحقت صور أنس وجرأته الفائقة ضررا كبيرا بصورة إسرائيل عالميا، وساهمت بشكل فعال في تحريك الرأي العام ومؤسسات العدالة الدولية نحو النظر بجدية في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، ولولا رواية أنس وزملائه الأبطال لغابت الحقيقة عنا.

اختار أنس أن يكون صحفيا مؤتمنا على رسالته الإعلامية السامية في أصعب الظروف وأحلكها، ونجح ببراعة كجيل صحفي شاب في توثيق المجزرة المروعة الجارية في غزة.

لقد شكّل صوته المميز وشاشة الجزيرة نافذة للعالم أجمع على مأساة التجويع التي فرضتها إسرائيل على شمال قطاع غزة مطلع عام 2024، وكان له دور بارز في نقل معاناة الناس في ظل الحصار الخانق والجوع القاتل: في الحصار الأول لمدينة غزة مطلع عام 2024، وفي حرب التجويع الثانية التي خصصت لها الجزيرة مساحة واسعة، وكان أنس ومحمد قريقع جزءا لا يتجزأ من ناقلي هذه المأساة الحديثة.

إسرائيل، التي أدركت هذا الدور المحوري الذي يلعبه الصحفيون، حاولت إسكاته عبر التهديدات المباشرة، والاتصالات المتكررة به، وحتى تصريحات الناطق باسم جيشها، أفيخاي أدرعي، الذي شن هجمات إعلامية متكررة على قناة الجزيرة ومراسليها، خاصة أنس الشريف والصحفي فيها تامر المسحال الذي هاجمته مؤسسة الناطق باسم الجيش أكثر من مرة؛ بسبب تغطية مراسلي الجزيرة في غزة تفاصيل الحرب وكشف الحقائق للعالم، في إشارة واضحة إلى ضيقها الشديد بالمشهد الإعلامي الخارج من قطاع غزة، كل ذلك كان مؤشرا واضحا على نوايا إسرائيل الشريرة تجاه القناة ومراسليها.

تستدعي جريمة اغتيال الصحفيين في قطاع غزة رد فعل عاجلا وقويا على المستويين الفلسطيني والدولي. فلسطينيا، يجب توحيد الجهود وتضافرها لتشكيل لجنة وطنية عليا لمتابعة ملف استهداف الإعلاميين، والعمل على توثيق كل الانتهاكات والجرائم وتقديمها إلى الجهات القضائية الدولية المختصة. كذلك يجب تعزيز حماية الصحفيين داخل قطاع غزة من خلال توفير آليات دعم قانوني لهم، والتأكيد على حرية الإعلام كحق أساسي لا يمكن التنازل عنه مهما اشتدت الظروف وتفاقمت الأوضاع.

أما على الصعيد الدولي، فتتوجب على منظمات حقوق الإنسان ومنظمات حماية الصحفيين ممارسة الضغط الهائل على المجتمع الدولي لتفعيل آليات المساءلة والمحاسبة، وفتح تحقيقات مستقلة وشفافة في جرائم الحرب المرتكبة بحق الإعلاميين. ويجب أن تشمل هذه التحقيقات محاسبة قادة الاحتلال المسؤولين عن إصدار أوامر الاستهداف والقتل.

غزة نامت حزينة على أنس ورفاقه.. وبكته بيوت غزة كأنه ابن لكل أسرة

رحل أنس الشريف ومحمد قريقع إلى الأبد، لكن صوتهما وصورهما ستبقى شاهدة حية على جريمة بشعة لن تسقط بالتقادم. لم تكن رصاصات الاحتلال الغادرة موجهة لأجسادهما الطاهرة فقط، بل كانت تستهدف الكاميرا التي وثقت الحقائق، والميكروفون الذي صدح بالصوت الحر، والحقيقة التي أوجعت المحتل الغاصب.

ستظل قناة الجزيرة، رغم الخسائر الفادحة والجراح العميقة، منبرا حرا ومفتوحا ينقل للعالم نبض غزة وألمها وصمودها الأسطوري. وفي كل مشهد يوثق، وفي كل كلمة تُقال، سيعيش أنس ومحمد وكل شهداء الكلمة، لتبقى الصورة أقوى من الرصاص، ولتبقى الحقيقة عصيّة على الاغتيال، ولتبقى التغطية مستمرة مهما كانت التحديات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة